- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
مأساة الأولويات: حينما تصنف الكرة قبل العلم في العراق

بقلم: محمد الربيعي
مقارنة مروعة تكشف عن حقيقة مرة: 250 مليون دولار تنفق على كرة القدم سنويا، مقابل لا شيء تقريبا للبحث العلمي. هذا ليس مجرد رقم، بل هو مؤشر على اولويات معكوسة تهدد مستقبل الوطن.
لقد غابت الجامعات العراقية بالكامل عن تصنيف "شنغهاي" لافضل 1000 جامعة عالميا، في حين احتلت ما لا يقل عن 22 جامعة من منطقة الخليج والشرق الاوسط مراتب متقدمة. ان هذا الغياب ليس محض صدفة، بل هو نتيجة مباشرة لسياسات تقزّم من قيمة العلم والمعرفة.
ميزانيات هزيلة وفساد يكرس التخلف
لا يمكننا البحث عن تفسير آخر سوى الفساد المستشري الذي نخر جسد المؤسسات التعليمية، مقرونا بـشح مريع في الموارد وسوء الادارة المزمن. فبينما تخصص الدول الصاعدة ميزانيات ضخمة للتعليم العالي والبحث العلمي كرافعة للنهوض التنموي، يستنزف هذا القطاع في العراق بفعل شبكات المحسوبية والاحزاب السياسية، حيث تهدر الأموال في مشاريع هامشية او تعاد توجيهها بعيدا عن أهدافها الأصلية. فميزانية التعليم العالي في تركيا، على سبيل المثال، تزيد بنحو 4 اضعاف نظيرتها العراقية، ولا توجد عندها ميزانية حكومية مخصصة لكرة القدم. الفرق يكمن ليس فقط في توافر الموارد، بل في اليات الحوكمة والرقابة التي تكبح الفساد وتوجه الانفاق نحو مراكز التميز والمعرفة. اما في العراق، فالمخصصات الضئيلة التي ترصد للتعليم العالي، لا تنعكس على البنية التحتية ولا على جودة البحث العلمي، بل تتبخر بين تعيينات محاصصاتية وصفقات مشبوهة وعقود لا تخضع للشفافية. ان الفساد لا يلتهم الميزانيات فحسب، بل يحطم طموحات اجيال كاملة ويقوض الثقة بمستقبل التعليم الوطني.
الانفاق على التعليم العالي والبحث العلمي في العراق لا يتجاوز 0.5% من الناتج المحلي الاجمالي، وهو رقم يبعث على الخجل مقارنة بدول الجوار وحتى بعض الدول العربية. ولادراك حجم الكارثة، اليك مقارنة صادمة مع دول فهمت ان العلم هو اساس التقدم:
كوريا الجنوبية: 4.35% من ناتجها المحلي الاجمالي (92.25 مليار دولار).
اسرائيل: 4.4% (15.19 مليار دولار).
فنلندا: 3.50% (9.51 مليار دولار).
الولايات المتحدة: 2.84% (609.69 مليار دولار).
قطر: 2.5% (9.23 مليار دولار).
كرة القدم أولا.. والعلم أخيرا
بينما تغدق الاموال على الاندية الرياضية والمنتخبات، تترك جامعاتنا تعاني من نقص حاد في التمويل. ان هذا التناقض الصارخ هو ما يبقي جامعاتنا حبيسة قائمة التخلف. حتى جامعة بغداد، التي تعتبر الافضل في العراق، لا تزال خارج قائمة افضل 1000 جامعة عالمية، وتحتل مراكز متأخرة في التصنيفات الاقليمية. هذا ليس نقصا في الكفاءات، بل هو اهمال متعمد للاستثمار في العقول.
اذا كان العراق يطمح الى استعادة مكانته العلمية التي تليق بتاريخه وتراثه الأكاديمي العريق، فأن ذلك يتطلب إعادة ترتيب الأولويات المالية بشكل جذري. لا يمكن تحقيق نهضة معرفية حقيقية في ظل استمرار استنزاف الموارد من قبل سراق الدولة في وقت تترك فيه الجامعات تُصارع العجز والتهالك.
ينبغي ان تتحول الميزانيات العامة، او جزء كبير منها، الى استثمارات مباشرة في البنية التحتية للتعليم والبحث العلمي كبناء وتحديث المختبرات وفق المعايير الدولية، وشراء المعدات والأجهزة الحديثة، وتوفير المواد واللوازم البحثية لمشاريع الدراسات العليا والبحوث التطبيقية، واطلاق برامج تمويل بحث علمي رصين وهادف، وانشاء حاضنات علمية وبيئة أكاديمية تحفز الابتكار.
والأهم من ذلك، لا بد من مكافحة الفساد المؤسساتي الذي يبدد كل محاولة اصلاح. فالأموال التي يتم تخصيصها للتعليم العالي يجب ان تصل الى الباحثين الحقيقيين او مشاريع التطوير البنيوي، والتأكد انها لن تختفي في متاهات العقود الوهمية او في جيوب الاحزاب السياسية.
ان منظومة التعليم العالي لا تحتاج إلى دعاية فارغة، بل الى تمويل فعال وشفاف ومستدام. العلم لا يزدهر في الظل، بل يحتاج الى بيئة داعمة وموارد كافية وارادة سياسية تعتبر الجامعات ركيزة للسيادة الوطنية والتنمية.
بدون هذه الخطوات الحاسمة، سيبقى التعليم العالي العراقي يدور في حلقة مفرغة من التخلف والتبعية العلمية، وسيبقى مستقبلنا رهينة لقرارات خاطئة تفضل الترفيه على التنوير.
أقرأ ايضاً
- العراق ومضيق هرمز
- العراق يغيب عن أهم منتدى لطريق التنمية في إسطنبول !
- الحجاب ولغط اللاهثين.. والحديث عن استهداف العباءة العراقية